دراسات حالة :

المشروع القومي الأهم للجمهورية الجديدة

(تنمية الانضباط الذاتي للواطن المصري)

الحوارالوطني


في يوم الإثنين الموافق 20 سبتمبر عام 2021 نشرت جريدة الأهرام في صفحة قضايا وآراء مقالا للكاتب أحمد عبد التواب بعنوان "مشكلة تدهور قيمة العمل" أعيد كتابة جزء منها هنا. وهناك سببين لذلك أولهما أن استرجاع هذه المقالة الآن ربما تكون مفيدة في ظل البحث عن صياغة مناسبة لمنطلقات وعناصر الحوار الوطني الذي يتم التحضير له، وثانيهما أنني استشهد بها لما سأذكره لاحقا في تشخيص الحالة المصرية خصوصا مع وجود هذا الإعجاب الدائم بالتجربة الماليزية، ثم إني سأستخدمها أيضا للإجابة على من يتساءلون عن قدرتي على هذا التشخيص. هذا ويبدأ مقال الاهرام كالتالي: " هذه حكاية مهمة كان يجدر بعهد مبارك أن يروج لها في حينها لما تنطوي عليه من معان كبيرة يمكن الاستفادة منها. فقد فاجأ مهاتير محمد جمهور محاضرته في مصر عندما زارها بعد استقالته عام 2003 من رئاسة وزراء ماليزيا ونال سمعة عالمية كبرى بعد إنجازه العظيم في نقل بلاده من دولة زراعية متواضعة إلى أحد النمور الاسيوية، فقد قال ردا على سؤال عن سر نجاح تجربته إن من أكبر التحديات التي واجهتها حكومته منذ البداية أن قيمة العمل كانت مهدرة في الثقافة العامة لدى شعبه وكان على حكومته أن تبتدع أسلوبا مجديا في حثّ الناس على العمل. وكانت أهم العراقيل تواضع المستويات التعليمية في أوساط الماليزيين، مما جعل الطرح النظري غير مجد. وقد اكتشفت حكومته بعد طول دراسة أن أفضل وسيلة هي أن يتعود الناس على تنفيذ التعليمات حتى إذا بدت غريبة وغير مقنعة. وكان أهم عوامل تحفيزهم أن يحصلوا على جوائز فورية عندما ينفذون التعليمات حتى تلك التي تبدو بالفعل تخلو من أي غرض سوى أن تعودهم على احترام تكليفات العمل. لذلك أعدت معسكرات تدريب للجماهير" هذا هو الجزء الأول من نص المقال وأترك القارئ ليبحث عن الحل الذي توصل إليه مهاتير محمد وقام بتطبيقه.

وما يهمنا هنا هو التشخيص الذي استطاع مهاتير محمد الوصول إليه للمشكلة الرئيسية للشعب الماليزي آنذاك وكيف استطاعت حكومته أن تبتدع أسلوب مناسب لحلها (حسب تعبيره هو)، وكيف تمكنت الحكومة الماليزية أن تحدد العلاقة بين تدهور قيمة العمل وعدم تنفيذ التعليمات. وحتى لا يلتبس علينا الأمر يجب أن نفرق بين قيمة العمل وكمية العمل فالعامل والموظف يمكن أن يقضي في مكتبه أو ورشته الساعات المطلوبة منه ولكن ربما تكون الحصيلة النهائية لهذه الساعات قليلة القيمة والفائدة. ولا يكفي لكليهما (الموظف والعامل) أن يعمل بجد واجتهاد وهو لا يعرف بالضبط ما هو المطلوب منه. وهناك مقولة شهيرة لأحد رواد إدارة الجودة في العالم (دكتور إدوارد ديمنج) يقول فيها: " أقصى جهد منك لا يكفي: تخيل حجم الفوضى التي تحدث في الإدارة لو أن كل مدير وموظف يبذل قصارى جهده دون أن يعرف ما يجب أن يفعله بالضبط" إذن فالكلمة السحرية هنا هي "التعليمات" و "التقيد بالتعليمات". ونحن في مصر ربما واجه كل منا هذا الموقف بصورة أو بأخرى. تذكر آخر زيارة لك للشهر العقاري أو إدارة المرور (عبد المنعم سعيد، المصري اليوم 22/2/2021) أو بعض البنوك أو مكاتب تسجيل المواليد أو الحصول على ترخيص مبنى أو تسجيل وثيقة في أحد مكاتب وزارة الخارجية (محمد أمين، المصري اليوم 25/4/2022) وغيره من المصالح وهي كثيرة. وربما يعتقد البعض أن التحول نحو التطبيقات الرقمية سيضع حلا لهذه المعضلة بل هو العكس تماما فالكمبيوتر لن يقوم بتنفيذ سوى ما نقوم نحن بتصميمه وبنائه داخله، وأن التحول الرقمي بنفس سمات المنظومة اليدوية القديمة ستنقلها مع مشكلاتها للفضاء الالكتروني ليضاف إليها مشكلات من نوع آخر، إلى جانب أن استجلاب أحدث الأجهزة والشبكات مع التطبيقات الجاهزة غالبا ما ينتج عنه فجوة تشغيلية بين ما هو متاح وما هو مطلوب (عبد المنعم سعيد، المصري اليوم 19/11/2019).

وللبحث عما يجب أن نتبناه فعليا الآن ربما يكون من المفيد أن نراجع ما نطالعه يوميا من مشكلات تتعلق بحياتنا اليومية على صفحات الجرائد وما تتناقله نشرات الأخبار والتي غالبا ما تصيب معظمنا بالإحباط والخوف على مردود ما تقوم به الدولة في مختلف المجالات. ففي الوقت الذي بدأت تتعافي فيه السياحة، وبعد جهود وزارة السياحة نستيقظ على خبر انقلاب أوتوبيس سياحي يقل سائحين من بولندا على طريق سفاجا-القصير ليتوفى اثر ذلك 3 سائحين ويصاب 11 أخرين، وبعد ذلك باقل من أسبوع نقرأ عن خبر لتصادم واحتراق أوتوبيس آخر يقل وفد سياحي من فرنسا مع عربة نقل محملة بجراكن بنزين في محافظة اسوان يقتل فيه خمس سائحين ويصاب 14، وبعدها بأيام نفزع لخبر وفاة ثلاث أشقاء من طلاب الجامعات على طريق البحيرة، وفي نفس اليوم يأتينا خبر عن إصابة 10 أشخاص نتيجة تصادم لميكروباس في القاهرة الجديدة، ثم تصادم بين 6 سيارات منها أوتوبيس يقل 24 راكب وعربات نصف نقل مع ميكروباس على طريق الإسكندرية الزراعي، ثم اشتعال النيران في عدد من السيارات بالطريق الدائري والطريق الدائري الأوسط نتج عنه قتيل وإصابة 8 اشخاص، ثم إصابة 19 شخصا في حادثتين في محافظة الشرقية، ولم يتوقف يوما مسلسل حوادث الطرق، ويمكن تتبع هذه الحوادث على رابط البحث

عن حوادث الطرق منذ يناير 2022      

نا لنا الحق أن نتساءل كيف نرى هذه الحوادث بعد كل هذا التطوير في شبكة الطرق وتركيب الرادارات ثم تركيب الملصق الإلكتروني تباعا مع الزيادة المضطردة في أسعار تجديد رخص القيادة ورخص السيارات وميكنتها والتي من المفترض أن يقابلها زيادة في الخدمات وزيادة في التدقيق لمنح التراخيص ثم انتشار الدوريات السيارة على الطريق أسوة بنظم المرور المتعارف عليها والتي تعلن عنها وزارة الداخلية مرارا، وقد أشار الكاتب سليمان جودة (المصري اليوم 1/5/2022) إلى هذه المشكلة واعتبرها بند الحكومة الأهم. ثم كيف أننا لم نر يوما دوريات الشرطة تستوقف هؤلاء الذين يسيرون عكس الاتجاه في الطرق الداخلية وحتى في الطرق السريعة؟ ولم نر أنه قد تم القبض على عربات تفريغ مخلفات البناء على الطرق السريعة التي كلفتها الدولة المليارات أو مصادرتها والإعلان عنها طبقا للقانون؟ ومن الملفت أن نعلم أن وزارة السياحة منذ عام 2012 تلزم الشركات السياحية بحصول سائقي سيارات السياحة على شهادة تدريب من المركز المصري للقيادة الآمنة والذي أنشئ في عام 2010 ويتوفر ايضا عدد من مراكز تدريب السائقين بمختلف أنواعهم.

إذن أين الخلل ولدينا القوانين والتشريعات ومراكز التدريب؟  الخلل يكمن في عدم التقيد بالتعليمات سواء من جانب القائمين على تنفيذ القانون والآخرين الذين يجب أن يلتزموا بالقواعد والتعليمات، وربما أيضا أن جهات التفتيش المكلفة بإطلاق حملاتها للتفتيش المفاجئ على هذه الأنشطة لم تقم بها أو لم تكن جدية فيها. إلى جانب ذلك هل يتم تدقيق شروط الحصول على رخص القيادة وتطبيق التعليمات بحذافيرها وبطريقة صارمة في إدارات المرور؟

وبعيدا عن حوادث الطرق والمرور نرى دائما انتشارا لحوادث اشتعال الحرائق في الممتلكات العامة والخاصة وغالبا ما نقرأ أن الحريق كان بسبب ماس كهربائي باعتبار أن هذا السبب هو العذر المقبول.  فمن خلال حصر سريع لأخبار ما نشر عن الحرائق منذ شهر يناير حتى اليوم بلغت أعداد الحرائق أكثر من 200 حريق أشهرها كانت حرائق مجمع مطاعم الإسكندرية، وحريق سوق المنشية، ثم حريق أدى إلى تدمير محمية سالوجا-وغزال، وحريق سوق البالة ببورسعيد وغيره كثير، معظمها أعلن فيه السبب على أنه "نتيجة ماس كهربائي" مما يدل على انعدام تعليمات الصيانة أو مراجعات الحماية المدنية وانعدام متابعة التعليمات من المحليات، أي في النهاية هو عدم اتباع التعليمات أو عدم وجود تعليمات أو انعدام التفتيش على التعليمات. وهناك العديد من المشكلات التي يواجها المجتمع وبضيق المجال هنا لحصرها تنتهي أسبابها في النهاية في عدم التقيد بالتعليمات. 

أي أن تشخيص المشكلة المصرية لا تختلف كثيرا عن المشكلة الماليزية إلا أن الحكومة الماليزية ربطت بين أتباع التعليمات وقيمة العمل، أما نحن في مصر فيجب أن تكون مشكلتنا الرئيسية ليست فقط في قيمة العمل ولكن العلاقة بين اتباع التعليمات والانضباط الذاتي للموظف والعامل والمواطن عموما. فالقضية الآن يجب أن تكون بناء الانضباط الذاتي (Discipline ) للفرد والذي نفسه نراه غاية في الانضباط عندما يسافر أو يعمل خارج مصر. إذن فالتشابه بين الحالة المصرية والماليزية نجدها فيما اكتشفته حكومة مهاتير محمد بعد طول دراسة من أن أفضل وسيلة هي أن يتعود الناس على تنفيذ التعليمات حتى إذا بدت غريبة وغير مقنعة، وكانت هذه الوسيلة هي ما ابتدعته الحكومة الماليزية لحث الناس على العمل.

وبالطبع فبناء التعود ليس بالأمر السهل على من تعود أن يؤدي عمله بطريقة فطرية ومباشرة، ويحضرني هنا تجربتي الشخصية في بداية حياتي وأثناء فترة التدريب العملي بإحدى شركات عمرة السيارات عندما كنت طالبا في كلية الهندسة في عام 1966 أي منذ 56 سنة أن أول نصيحة سمعتها من رئيس العمال عند استقبالي بالورش مع زملائي هي "ان ننسى ما تعلمناه في الكلية ونركز فقط على ما نراه بالورش" وكان العمل يتم يوميا دون استخدام وثيقة واحدة. وقد كانت هذه المقولة تطاردني دائما إلى أن التحقت بورش عمرة الطائرات حيث كل شيء مدون وموثق ويتم بالقياسات الدقيقة. ومنذ عام 1993 ومن خلال أكثر من 20 مشروع استشاري بالمصانع والمؤسسات الكبرى كانت المشكلة الرئيسية فيها جميعا هي صعوبة إنشاء تعليمات موثقة مع منظومة لتداولها وتحديثها ومراجعتها مع التأكد من أن الجميع يقوم باتباع التعليمات وتنفيذها. وفي نهاية هذه المشروعات كان المشروع الأهم لي هو تنمية مهنة محلل النظم وهي المهنة التي تحتاجها مصر الآن خصوصا في مراحل التحول الرقمي الذي يتبناه رئيس الجمهورية شخصيا. فإذا كانت الحكومة الماليزية قد قامت بإعداد المعسكرات التدريبية لتدريب الجماهير على التعود على تنفيذ التعليمات فإننا في مصر يمكن أن يتبنى مشروعنا المراحل التالية:

تدوين وتوثيق التعليمات في كافة المؤسسات الحكومية

مراجعة التعليمات وتنقيتها وإعادة هندستها

التفتيش والتأكد من تنفيذ التعليمات لكل المستويات الإدارية

وصولا لمرحلة خلق بيئة لتنمية الانضباط الذاتي، على أن يقوم بهذه المهمة أشخاص منتقين من كل إدارة وقسم يتم تدريبهم على أسس ومفاهيم ومنهجيات هذه المهمة والتي لا علاقة لها ولا تتعارض مع نظام الجودة بل يجب أن تكون مرحلة سابقة له. وبعد هذه المرحلة يصبح لدى كل قسم وإدارة كتيب "دليل العمل" تم إعداده بواسطة العاملين أنفسهم ليصف خطوات العمل في إداراتهم وليصبحوا مدربين على تطويره وتحسينه والالتزام به.

يأتي هذا الموقع ليوفر تبادل المعرفة والمعلومات لهؤلاء الذين يبحثون عن أنسب طرق ومنهجيات تطوير المنظومة مع نماذج الإدارة المناسبة لها. ولذلك فقد حاولنا أن يضم الموقع معلومات كافية عن النماذج الحديثة للإدارة حيث يوضح الشكل هذه النماذج والتي تتمحور حول مفهوم الإدارة بالمعلومات والتي يقدمها الموقع هنا كفلسفة، واستراتيجية، ومنهجية للتطوير يمكنكم الإنضمام إلى مجموعة المناقشة Change Forum Page